كانت صحراء وكان عبد المولى وحيداً، حينما خانته سيارته فاجتاح محركها الخلل، وبلا خبرة حاول جهده أن يصنع شيئاً لها. أعيته الحيلة فمال على مقود سيارته متكئاً... حاعلاً رأسه فوق قرص المقود.. فانطلق صفيرها مدوياً... كان قد استرسل في إغفاءة قصيرة.. فهب مذعوراً صائحاً مخاطباً من حوله:
"أنت... من أنت...؟ لماذا تقف هكذا كالأبله...؟ تغني.. تغني أغنيات أطفال من أنت..؟؟".
(كان عبد المولى يتميز غيظاً).
"يا أنت لم كل هذه النشوة؟؟ إنني أرغب أن تمشى سيارتي. ولكنك تقف مسروراً كأنك تشمت بي.. ها قل لي ماذا تريد؟ وجودك لا يؤنسني... أنت تشعر بوجودي لهذا تضحك؟"
-هذه الصحراء يخيل إلي أنها لم تكن طيلة عمرها مقصداً لأي عابر سبيل حتى لو كان خائباً مثلي..
"ماذا جاء بك عبد المولى حتى رسى بك هذا المرسي السيء..؟
أي حظ عاثر هذا الذي أتى بك؟ حتى تتلقفك هذه الصحراء الفاغرة فاهاً يبتلع الجمل والسيارة والإنسان... أي قدر هذا الذي رمى بك إلى صحراء ومجنون.؟"
-المجنون يقف مشدوهاً حول السيارة وواضح تماماً أنه لم يركبها (أو هكذا خُيّل لعبد المولى) كان يدور حولها، وهو يتلمس سطحها الأملس الداكن فتلسعه حرارتها، ويعود ينظر ثانية حول نوافذها، ويلقي ببصره من خلفها.
كان عبد المولى يلتزم الصمت وكان يراقبه.. بعد أن كلَّ من محاولة إصلاح السيارة، ملَّ، ثم جلس خلف مقودها ينتظر فرج الله. "لماذا تنظر إليّ هكذا...؟" بصوت عال ونبرة حازمة قال عبد المولى ذلك. وفرك عينيه. كانت الصورة تهتز كغبش أمامه.. ظل عبد المولى يراقب وأخذ يقفل زجاج السيارة.
"ماذا تفعل يا عبد المولى لو أن هذا الغريب استظرف شيئاً وأراد أن يتناوله؟ ماذا لو أقدم على فعلة حمقاء؟ أدافع حتى الموت..
الموت.. أي موت تعني وأنت تعيش الموت كل يوم.. أحياتك ذي تعتبرها حياة؟ تعيش في الصحراء وأهلك تتركهم على بعد آلاف الأميال وتعيش في الصحراء وحيداً تجمع القرش فوق القرش.. وحينما تعود إلى قريتك يظنك أهلها البسطاء مليونيراً هبط إليهم من مدينة قارون ولكن لو يدرون كيف تجمع القرش تلو القرش آه لو يدرون؟.. إذن لعرفوا أنك ميت في جوف حي.
"انظروا.. انظروا"
لقد أخذ الرجل يضرب بشدة زجاج السيارة "هكذا توهم لعبد المولى" نعم يضرب بشدة سيكسر الزجاج.. كان وجهه طفولياً وكانت ضرباته أحسست بها شديدة، كان ذا شفتين غليظتين جافتين تماماً، كان يلهث كأنه قطع عدواً عشرة أميال متتالية.
أخذ جهده يتضاءل، وعيناه تجحظان، وشفتاه تتدليان.. كيف يا عبد المولى يمكن أن تستميله؟ ابتسمت، مددت يدي خلفي وتناولت زمزمية الماء.. لعله ظمآن.. قلت ذلك في نفسي، فتحت باب السيارة، جاءني مسرعاً، ولم ينتظر أن أحدثه. خطف الزمزمية، وأخذ يكرع ماءها.. يا له من ظمآن..
كان بحوزتي علبة بسكويت ناولته قطعاً منها.. التهمها في لحظات.. يا له من جائع.. ابتدأت تعابير وجهه تسترد معانٍ جديدة... جسده عاد إلى طوله السابق، عيناه وشفتاه استعادتا طبيعتهما.
هل ظلمته؟
لم يكن شريراً ولا مجرماً.. ولا قاطع طريق.
-ما اسمك؟
ضحك طويلاً، وأخذ يغني أغنية جذلى اعتدت سماعها من الأطفال.
كيف يمكنني أن أتفاهم معه؟
-هل تريد ماء؟
هز رأسه بالنفي.
-إذن تريد أن تأكل؟
أومأ برأسه نافياً كذلك.
-أين تسكن؟
وأشار بيده ليفهمني أنه في كل هذا الكون.
-هل تركب معي؟
لم أسمع جواباً، إذ كان قد سبقني إلى الكرسي.
-الجو حار في هذه الصحراء.
هز رأسه بالإيجاب.
-أأنت متزوج؟
وحرك رأسه دون أن أفهم ماذا يعني.
أحاول إشعال السيجارة وهو ينظر.. كللت.. أخذت الترانزستور أدرت المؤشر على المحطة.. كانت تبث أخباراً.. وأخذ يستمع بتركيز سألته:
-هل تسمع؟
هز رأسه بالإيجاب، فقلت في نفسي إذن هو عربي. آه لو ينطق هذا الرجل.. لا يعرف سوى أغنيات الأطفال وأن يهز رأسه. من أي دنيا جاء..؟ وهذه الصحراء التي تبتلع اللسان أيضاً..؟
قلت "سيارتي تعطلت كما ترى...
-لا أعرف الخلل الذي اعترى محركها.
...
لم يجب..
وقررت أن أتابع الحديث معه.
-هل تمر سيارات كثيرة من المنطقة؟
أنا أعمل مع شركة كبيرة محترمة.. وعندي نقودلا بأس بها.. رحلات الصحراء هذه تكلفني كثيراً من الجهد.. لكني أقوم بها...
-الحياة صعبة أليس كذلك؟
ظل صامتاً.
مددت يدي تناولت قطعاً من البسكويت.. التهمتها.
-هل تأخذ شيئاً؟
لا يرد.. لا يتحرك.
أشعر بدوار شديد.. ساعات طويلة في صحراء لا تعرف لها وجهاً من ظهر، لولا هذا المذياع لانقطعت عن كل الدنيا.
-أهلي يسكنون بعيداً.. والدي قال لي أنك تقابل أحياناً أناساً لا تعرفهم، ويجدر أن تكون مؤدباً معهم.
....
-أتسمعني؟ والدي عوّدني على ذلك.
"بصوت أقرب إلى الصراخ قال عبد المولى ذلك".
...
-والدي قال لي أن من الأدب إذا سألك أحد أن تجيبه.
...
-إني أحدثك لا تخرجني عن طوري... حادثني كما أحدثك.
كان عبد المولى قد استشاط به الغيظ، وأعصابه انهارت تماماً.. وبدأ الليل يرخي سدوله وهو لا يرى شيئاً ولا يسمع.
الماء معه لا يكفي أياماً، والبسكويت كذلك لا يسده إلى الأبد.. ومن أين يأتيه الفرج؟ في هذه الصحراء الفاغرة فمها؟ ألن تبتلع حتى من يفتشون عنه؟
فكّر عبد المولى أن يتجول لعله يرى أي خيط أمل.. مشى وهو يتخبط..ز وأخذ يركض بجهد منزوف بكل اتجاه شرقاً، غرباً، شمالاً، جنوباً... وكان يرتد مرة أخرى إلى سيارته فيجلس منهكاً، ويرتمي على المقعد خلف مقود السيارة ويتحدث:
-ها قد رأيت كم تعبت ألا تدلني على إنسان؟... لماذا لا تحدثني؟
أدار مذياعه.. كانت أنغاماً موسيقية عذبة تنساب إلى مسامعه وسرح خياله.. فتاة جميلة يأخذها بين أحضانه ويرقصان ويلعبان ويجريان إلى البحر، تقذفه بالماء يقذفها بالماء... يتراكضان... يتضاحكان.. يدخلان البحر... يشربان المرطبات يجلسان تحت مظلة يبنيان بيوتاً من رمل... رمل.. رمل.. والرمل ها هو الآن يسبح فيه.. يغرق فيه.. واستيقظ من أحلامه إذ توقفت أنغام الموسيقى فجأة.. وجاء صوت مذيع أجش يعلن عن فقدان "عبد المولى وحيداً" في الصحراء "خرج عبد المولى وحيداً في مهمة اعتيادية إلى الصحراء" و... لم يقل المذياع ابتلعته الصحراء.. قال ويجري البحث عنه بطائرة عمودية بمساحة مائة ميل مربع.
صرخ عبد المولى فرحاً "إهم يبحثون عني.. يبحثون عنك يا عبد المولى، يبحثون عنك، أتسمع؟ يبحثون عنك".
وعادت لعبد المولى أحلامه، بحيوية فائقة خرج من سيارته، وأخذ يركض في كل اتجاه.. شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
كلَّت قدماه... وأعياه التجوال... ترامى إلى سمعه أصوات بعيدة أنهم قد جاءوا.. تذكّر أهله.. تذكر الفتاة الجميلة، يجري معها إلى البحر، يسبحان ويبنيان بيتاً... نعم بيتاً، لكن ليس من رمل.. وغمغم بسعادة إذن آتون... سار باتداه السيارة وأخذ يجر نفسه بتثاقل وأعياء شديدين، حتى وصل بجوار السيارة وتهاوى عندها.
أخذ يدق.. أخذ يدق.. ولكن ذلك الذي كان معه لم يعد له وجود...
-أين أنت أين أنت..؟ افتح لي غناءك الطفولي؟ أين نشوتك؟ أين سرورك؟ أين جنونك؟ أنقدني؟.
-لم يكن مع عبد المولى أحد... كان صوته يضيع في جوف الصحراء دون أن يكون له صدى... بحث عبد المولى عن المجهول.. لم يجده... "ذاب.. ذاب هكذا قال".
-فتح عبد المولى باب السيارة تناول الزمزمية، فوجد ماءها مدلوقاً في قاع السيارة وكان البسكويت هشيماً...
تراخى عبد المولى على المقعد.. وكان ضجيج محرك الطائرة يقترب ولكن عبد المولى لم يسمع آنئذ شيئاً!!
*من مجموعة "وجوه تعرف الحب".