يحل فصل الصيف حاملا معه شتى أنواع الفاكهة المغرية بألوانها وأشكالها، نأكلها ثمارا كما هي، أو نحولها إلى عصير طازج وشهي، ويمكن أيضا أن نصنع منها مادة لزجة وحلوة ولذيذة يعشقها الصغار والكبار، إنها المربى أو «الكونفتور» بالفرنسية، كما يسميها المغاربة.
تمتلئ الأسواق بالمربى الجاهزة المعدة من كل أصناف الفاكهة، وعرفت هذه الصناعة الغذائية تطورا كبيرا، إذ بات المغرب ينتج أنواعا جيدة، تستحوذ على الحصة الكبرى من السوق على حساب المستوردة.
وتشير بعض المصادر إلى أن المربى لم تظهر في أوروبا إلا في فترة متأخرة، نظرا لارتباطها بالسكر، الذي لم تعرفه أوروبا إلا خلال حقبة الحروب الصليبية، بيد أن المطبخ الروماني كان يتضمن الفاكهة المحفوظة في العسل، وبما أن العسل كان باهظ الثمن، وغير متاح للاستهلاك اليومي آنذاك، اقتصر تناول هذه الفاكهة على الطبقة الارستقراطية والنبلاء.
واكتشفت أوروبا السكر عن طريق اتصالها بالعالم العربي، وطوال حقبة العصور الوسطى، استعملت المربى لأغراض طبية وشفائية، إلى أن تحولت بالتدريج إلى مجال الأطايب والحلويات، فظهرت أولى المحلات التجارية المتخصصة في بيع المربى في باريس، وكان أشهرها محلات الفرنسي «روجي دوكيكيتون»، الذي ما زال أحد الشوارع الباريسية يحمل اسمه.
وكان اسم المربى (كونفتور) يطلق على عدة أصناف: مثل الفاكهة المعسلة، والفاكهة بالشراب الحلو، والفاكهة المطبوخة في السكر، وحتى المصاصات، ولم يتم حصر اسم المربى على المنتج المتعارف عليه حاليا، إلا خلال القرن التاسع عشر.
وكان لاستبدال سكر القصب، بسكر الشمندر، دور كبير في جعل السكر مادة متداولة على نطاق واسع في أوروبا، ومن ثم تطورت صناعة المربى، كما أصبح تحضيرها في البيوت الأوروبية متاحا للجميع.
بدورها تنتظر الأسرة المغربية ظهور الفاكهة الموسمية لصنع مربى لذيذة وشهية،خصوصا أن تحضيرها غير مكلف تماما، ولا يتطلب أي تقنيات خاصة أو معقدة، ولا إلى وقت طويل.
وتبقى أشهر أنواع المربى هي المصنوعة من البرتقال والمشمش وتوت الأرض (الفراولة)، بسبب مذاقها اللذيذ، وطعمها الغني، وبما أن أفضل أنواع المربى هي تلك المحضرة بالفاكهة الناضجة في موسمها، فقد ارتبطت هذه الأنواع الثلاثة بثلاثة فصول هي: البرتقال في الشتاء، وتوت الأرض في الربيع، والمشمش في الصيف.
إلا أن كل أنواع الفاكهة تصلح لتحويلها إلى مربى: مثل التين والخوخ والتفاح والبرقوق والعنب والموز والكمثرى والأناناس، وغيرها، وإن كانت بعض الأنواع من الفاكه تثير الاستغراب إذا ما تم تحويلها إلى مربى ومنها التين الشوكي أو «الهندية» التي دأب المغاربة على تناولها كما هي بعد نزع قشرتها الشوكية، غير أن إحدى التعاونيات النسائية في ضواحي مدينة سيدي افني (جنوب المغرب) استعملت أخيرا، ثمار هذه الفاكهة الشعبية الرخيصة، التي تنضج في فصل الصيف، في إنتاج مربى لم تجد بعد طريقها إلى التسويق بشكل واسع حتى يتسنى لنا تذوقها ومن ثم الحكم على طعمها.
لا تقتصر المربى على الفاكهة الموسمية، بل تنافسها بعض أنواع الخضر، وإن كان عددها محدودا جدا، وهي الجزر والطماطم والسفرجل واليقطين.
سهولة تحضير المربى، سواء بالفاكه أو الخضر، لا يعني عدم الإلمام ببعض الاحتياطات الواجب إتباعها، وأهمها استعمال فاكهة طازجة لتوفرها على قيمة غذائية عالية واحتوائها على نسبة عالية من مادة «البكتين» المفيدة التي تتحول عند الطبخ إلى مادة لزجة هي المسؤولة عن تماسك المربى، بالإضافة إلى استعمال وعاء معقم من الزجاج لحفظها فيه. وتلعب كمية السكر المضاف إلى الفاكهة دورا أساسيا في حفظ المربى لأطول مدة ممكنة.
تحضر المربى بنفس الطريقة تقريبا لكل أنواع الفاكهة، إذ تقطع الفاكهة إلى قطع صغيرة، ويضاف إليها السكر، ثم تترك في إناء الطبخ حتى يسيل منها الماء، فتوضع على نار هادئة إلى أن تصبح سميكة ومتماسكة وخالية تماما من الماء، عندما تبرد توضع في علب من الزجاج وتحفظ في الثلاجة، ولا بد من التذكير بأن المربى المنزلية تتعرض للتلف في مدة أقصر من المربى الجاهزة، لأنها لا تحتوي على مواد حافظة مصنعة، لذلك من الأفضل عدم تحضير كميات كبيرة منها.
وبخصوص الفاكهة التي لا تحتوي على كمية كافية من المياه، يضاف إليها قليل من الماء أثناء طهوها مع السكر، كما يستحسن إزالة قشرة البرتقال قبل طهوه حتى لا نحصل على طعم مر.
وتحتاج مربى الخضر إلى إضافة نكهة طبيعية إليها، وفي العادة تستعمل القرفة لمنحها مذاقا متميزا، إذ يتلاءم مذاق القرفة بشكل جيد مع السفرجل، وكذا الجزر واليقطين، إلا أن الفرق بينها وبين مربى الفاكه، هو أنها تحتاج إلى الطهو في الماء قبل إضافة السكر إليها وتركها تتماسك.
وينصح البعض بإضافة مقدار عصير ليمونة إلى المربى لأنه يساعد على استخراج مادة البكتين من الفاكهة المسؤولة عن تخثرها.
أما كمية السكر المستعملة فتقاس بالتوازي مع وزن الفاكهة، مع الإشارة إلى أن إضافة كمية كبيرة من السكر تؤدي إلى ظهور بلوريات سكرية تؤثر في طعم المربى، وفي مقابل ذلك التقليل من السكر يؤدي إلى تلفها بشكل سريع.
لا شك أن معظمنا يتذكر كيف كانت علاقتنا بالمربى عندما كنا أطفالا، إذ نستغل انشغال الأم وغيابها عن المطبخ لفتح الثلاجة والاستيلاء على علبة المربى الزجاجية مسلحين بملعقة كبيرة لابتلاع أكبر كمية من هذه المادة الحلوة التي كانت تسيل لعابنا، ثم نغلق العلبة بإحكام ونضعها في مكانها، وكأننا لم نفعل شيئا، ونخرج بعدها بسرعة لمواصلة اللعب قبل أن ينكشف أمرنا.
إلا أن أحرج اللحظات التي كنا نواجهها عندما تنفلت العلبة الزجاجية من بين أيدينا، وتسقط على الأرض، فيكون موعدنا مع عقاب «مر» ينسينا طعم المربى الحلو.
ونظرا لقيمتها الغذائية العالية يتناول الناس المربى في وجبة الفطور مدهونة على قطع الخبراما لوحدها أو فوق طبقة من الزبد، وهي سهلة الهضم، وتعوض المربى العسل، فتدهن فوق الفطائر المغربية المعروفة مثل «البغرير»، و«الرغايف»، بالإضافة إلى الكريب، إذ ترفق مع الشاي أو القهوة بالحليب في وجبة الفطور، أو في المساء، لتشكل وجبة لذيذة، لا تغيب عن الموائد المغربية، وبالأخص خلال شهر رمضان.
كما تدخل المربى في تحضير العديد من أنواع الحلويات، ومن أشهر استعمالاتها، دهنها على سطح الكيك ورش اللوز المجروش، أو بودرة الكوك فوقها، للحصول على كيك بمذاق لذيذ وشكل جميل.
وتستعمل أيضا للصق قطعتين من البسكويت أو الحلوى المنزلية البسيطة ثم دهنها بالمربى من الجهتين وغمسها في بودرة الكوك أو اللوز المحمر المجروش، للحصول على حلوى سهلة التحضير، وبمذاق مختلف.
توفر المربى سعرات حرارية عالية نظرا لوجود السكر الطبيعي للفاكهة والسكر المصنع، لذلك فهي مفيدة جدا للأشخاص الذين يبذلون مجهودا كبيرا، مثل الرياضيين، أو الأشخاص النحيفين الذين يعانون من سوء التغذية وفقر الدم، ومفيدة للجميع في وجبة الفطور لأنها تمنح طاقة فورية لبدء اليوم بنشاط وقوة، غير أن أصحاب الحمية، مطالبون بالقيام بعملية حسابية لعدد السعرات التي ستدخل أجسامهم إذا ما فكروا في تناول المربى في أي وقت كان.
وتحتفظ المربى بمعظم الفيتامينات والأملاح المعدنية المتوفرة في الفاكه، خصوصاً معدن البوتاسيوم، ونسبة مهمة من فيتامينات المجموعة «باء».