اليوم الأخير في حياة بلدة سلمة

المعارك المستمرة وحتى سقوط البلدة

إن محاولات العدو لم تنقطع، إذ كان يحاول في كل ليلة مهاجمة البلدة وجس نقاط الضعف ليعرف من أين يمكن أن يقتحم هذه البلدة العنيدة ويؤدبها، ولكنه كان يقابل في كل محاولاته بيقظة وشجاعة نادرة حتى أصبحت الهجمات على بلدة سلمة هي الروتين المنتظم والذي يمكن أن يقع في كل لحظة بحيث لا يمكن تخلو ليلة واحدة من هجمة أو أكثر على بلدة سلمة ولكن يقظة المدافعين وبسالتهم أصبحت مدار حديث كافة أهالي فلسطين، وشجعت كثيراً من أبناء القرى المجاورة على مشاركة أهالي سلمة في رد هجمات الأعداء، وخاصة أهالي بلدة العباسية الشجعان الذين كثيراً ما كانوا يحضرون ليلاً لمشاركة أهالي سلمة في رد عاديات الأعداء وقد لقبتها الصحافة العربية بفلسطين ومختلف الجهات بسلمة الباسلة وأصبح اسم سلمة يقترن دائماً بالباسلة وأهالي سلمة مقترناً دائماً بالبواسل على ما أظهروه من صمود رائع ومقاومة شجاعة في وجه المستعمرات المحيطة وبخاصة لت أبيب ولا أغالي إذ قلت بأن أهل سلمة كانوا لا ينامون إلا على اشتداد لعلة الرصاص وتفجير القنابل وكانت إذا خلت ليلة واحدة من أصوات النيران أو تأخر الهجوم على البلدة لا يغمض لهم جفن لأنهم يتحسبون ماذا يدبر العدو؟ وأين سيكون هجومه؟ ومتى؟ وما هو الشكل الذي سوف يأخذه هذا الهجوم؟ أما إذا حصل هذا الهجوم فقد كانوا على ثقة من مقدرة مناضلي البلدة الشجعان من صده، وهكذا ترتاح نفوسهم وينامون على أصوات الرصاص والقنابل لأنهم يكونون على يقين بأن العدو قد قام بما اعتاد أن يقوم به وأنه سوف يرد على أعقابه كما كان يرد في كل مرة ولا داعي للخوف أو القلق.



خروج أهالي سلمة للقتال خارج سلمة من أجل الحصول على السلاح

لقد كان أهالي سلمة يتعطشون للحصول على مزيد من قطع السلاح لتعزيز ما بأيديهم منه حتى يتمكنوا من أن يكيلوا دائماً للعدو الكيل كيلين ولا يمكنوه من النيل منهم وقد ترامى على أسماعهم ذات يوم من أيام شهر آذار من عام 1948 بأن قطاراً سيقوم بالتوقف في أحد معسكرات الجيش البريطاني الموجودة بكثرة في منطقة وادي الصرار وتحميل كميات من الأسلحة لنقلها إلى منطقة قناة السويس للجيش البريطاني المرابط هناك توطئة لقرب رحيل القوات البريطانية الموجودة في فلسطين ونقل أسلحتها ومعدّاتها من هذه المعسكرات قبل 15 أيار من نفس العام 1948 فرسمت قيادة بلدة سلمة خطة من أجل وضع ألغام ومتفجرات على أحد الجسور الموجودة في الطريق لقلب هذا القطار وتدهوره والاستيلاء على ما فيه من أسلحة وذخيرة بعد أن يكون القطار قد غادر آخر معسكر من معسكرات الجيش البريطاني في فلسطين في طريقه إلى مصر، وقد اختارت القيادة مجموعة كبيرة من أشجع أبناء القرية وعهدت إلى أحد وجهاء البلدة وهو المرحوم خليل أبو أصبع بقيادة هذه المجموعة التي أوكل إليها تنفيذ هذه المهمة فتوجهت هذه المجموعة في اليوم المعيّن في ثلاث سيارات لوري استأجرت اثنتان منها قيادة بلدة سلمة إلى المكان الذي رأت أنه أنسب مكان لمهاجمة القطار فيه، وقد وضعت الألغام والمتفجرات اللازمة من أجل نسف هذا القطار أثناء مروره فيه وكمنت على جانبي خط السكة الحديد، ولا نعرف السبب الذي أخر مرور ذلك القطار في ذلك اليوم فلم يقم هذا القطار في ذلك اليوم على الإطلاق وقد يكون أن السلطات قد ساورتها الشكوك بما كان ينتظر هذا القطار من مصير مظلم لو أنه قام في موعده حسب العادة، ثم جاءت الأخبار تقول بأن قوات الجيش البريطاني قد عدلت عن نقل الأسلحة والذخائر التي كانت ستنقلها بالقطار، وأنها سوف تنقل أسلحتها وذخائرها بواسطة سياراتها وآلياتها المدرعة، وأنها تخشى على أسلحتها وذخائرها من نقلها بواسطة القطار من السرقة ومن محاولة الاستيلاء عليها من بعض المهاجمين.. ولهذا عادت هذه المجموعة من حيث أتت ولكنها وفي طريق عودتها راحت تهاجم المستعمرات الموجودة في طريقها وهي عائدة وخاصة المستعمرات القريبة من برير وبربرة وكوكبة وحليقات الواقعة في منطقة غزة واشتبكت مع هذه المستعمرات اليهودية في معارك ضارية أدّت إلى هروب حرّاس هذه المستعمرات وطلبهم الاستغاثة والنجدة وقد أبلت هذه المجموعة بلاءً حسناً في مهاجمتها لتلك المستعمرات وقتل العديد من حراسها وإصابة أعداد أكبر بإصابات بليغة وعادت في المساء إلى بلدة سلمة دون أن يصاب أحد من أفرادها بسوء وبعد أن أرهبت كافة سكان تلك المستعمرات التي هاجمتها، وهكذا فقد بلغت ثقة أهالي سلمة بقوتهم ومقدرتهم وارتفاع معنوياتهم حداً جعلهم يقومون بغارات خارج بلدتهم.



اليوم الأخير في حياة بلدة سلمة

ضرب القنابل من يوم 27/4

نتيجة لإصابة بعض نساء وأطفال البلدة من تساقط قذائف المورتر عليها في صبيحة هذا اليوم العصيب 28/4 فقد أصيبت امرأتان وطفلان تم وضعهما في سيارة الإسعاف التي تملكها القيادة، وحاول سائق سيارة الإسعاف الانطلاق بها من الطرق الترابية الداخلية للقرى المجاورة لسلمة والوصول إلى بلدة العباسية ومن ثم متابعة السير إلى مركز الهلال الأحمر بمدينة الرملة لمعالجتهم، ولكن سائق سيارة الإسعاف فوجئ بإطلاق نيران الأسلحة عليه من قبل العدو الذي كان يحتل بلدة الخيرية آنذاك، فاستدار بسرعة وعاد إلى بلدة سلمة ليخبرها بالأمر ويصدق رواية المرأة التي كانت تبيت عند أهلها وأعلمت القيادة، وكان هجوم أهالي سلمة الذي سبق القول عن تفاصيله في الفقرة السابقة وبعد مداولات سريعة مع بعض أعضاء اللجنة العسكرية وبعض أعضاء اللجنة القومية قرر قائد بلدة سلمة التوجه بصحبة أمين سر القيادة مستقلين اللوري الذي كانت تملكه شركة الألبان الحديثة متوجهين عن طريق يازور محاولين قطع الوادي العميق الذي يفصل بلدة سلمة عن يازور وكلها طريق ترابي غير معبّد، وذلك من أجل إعلام قيادة المنطقة الوسطى باحتلال اليهود لبلدة الخيرية، وأن سلمة الآن تحتاج إلى نجدة من هذه القيادة لطرد اليهود من بلدة الخيرية كما كانت تظن وهي لا تعلم باحتلال اليهود لقريتي ساكية وكفرعانة أيضاً وفي نفس الوقت تزويد البلدة بكميات لا بأس بها من الذخيرة تمكّنها من الصمود أياماً إذا ما تعذّر طرد اليهود من بلدة الخيرية وفتح الطريق الترابي الذي يوصل بلدة سلمة بالمنطقة العربية، وفعلاً أمكن القائد المرحوم موسى أبو حاشية ومرافقه أمين سر القيادة المرحوم خليل السالم صقر الذي قاد سيارة اللوري بنفسه من اجتياز وادي سلمة والوصول إلى بلدة يازور التي كانت خالية تماماً من سكانها ومن المدافعين عنها والتوجه عن الطريق المعبد المار منها إلى بلدة بيت دجن التي كانت هي الأخرى خالية تماماً من سكانها ومن المدافعين عنها، ومواصلة السير على الطرق المؤدي من بلدة بيت دجن إلى بلدة كفر عانة من أجل الوصول إلى بلدة العباسية إذ كانت قيادة المنطقة الوسطى تتواجد بها أحياناً وفوجئ قائد بلدة سلمة ومرافقه بالأعداء اليهود يتمركزون على جسر الطريق العام بين بلدة بيت دجن وبلدة كفر عانة مما يعني بأن بلدة كفر عانة أيضاً محتلة، وكان لا أحد من أهالي سلمة يعلم بعد باحتلالها وباحتلال بلدة ساكية، وقد تعذّر عليها الاستدارة بسيارة كبيرة على طريق لا يتجاوز عرضها أربعة أمتار فاضطروا إلى النزول منها والاحتماء بسهول القمح والاختباء بها ثم العودة إلى الخلف حتى بلدة بيت دجن سيراً على الأقدام واستقلال سيارة أخرى أوصلتهم إلى اللد عن طريق يافا-اللد التي تمر ببلدة بيت دجن أيضاً، حيث أمكنهم مقابلة قيادة المنطقة الوسطى والتي كانت تتواجد في مدينة اللد وشرحا لهم الموقف الذي كانت فيه بلدة سلمة وبالقرى الثلاث التي احتلت إلى الشرق منها، وبالوضع الموجود في بلدتي يازور وبيت دجن وبأن بلدة سلمة أصبحت مطوقة تماماً وأنه إذا أريد الصمود فيها ومقارعة العدو فإن الأمر يحتاج إلى تزويدها بكميات كبيرة من الذخيرة والمؤن التي تكفي للمرابطة فيها برغم الحصار المضروب عليها، ويظهر أن الأخبار السيئة المتعلقة بالأوضاع الصعبة التي كانت تمرّ بمدينة يافا وباحتلال اليهود لقرى الخيرية وساكية وكفرعانة ومغادرة المدافعين عن بلدتي يازور وبيت دجن، كانت قد وصلت القيادة ورؤي أنه بات من المستحيل الدفاع عن بلدة سلمة، وأنها أصبحت ساقطة عسكرياً، فاعتذرت قيادة المنطقة الوسطى بعدم توفر الإمكانات لديها لتزويد بلدة سلمة بما تحتاجه لصمود المدافعين عنها وأن الأمر متروك لقيادتها، فعاد القائد مساءً بصحبة رفيقه وهما منكسرا الفؤاد لتخلي القيادة عن بلدة سلمة واعتذارها بعدم تقديم أي مساعدة لها، وكان لا مفر من مغادرة البلدة بعد أن أصبح الأعداء يحيطون بها من كل جانب، وبعد أن قطعت كافة الطرق التي توصلها بالمنطقة العربية واعتذار القيادة عن تزويدها بكمية مناسبة من الذخيرة فقط تكفي لصمودها أياماً قليلة، وكان معظم النساء والأطفال والشيوخ والذين لم يتمكنوا من مغادرتها قد غادروها أثناء النهار سيراً على الأقدام من وادي سلمة وحتى مدينة اللد في مسافة لا تقل عن عشرين كيلومتراً، وقد أسفط في يد قيادة البلدة والمدافعين عنها، ورأوا أنه لا مناص لهم من مغادرة بلدتهم التي دافعوا عنها بكل بسالة التي أصبحت بسالتها وصمودها مضرب الأمثال، فاضطروا مساء إلى مغادرتها والانسحاب منها وقلوبهم دامية وعيونهم دامعة عن تخلي القيادة عنهم واضطرارهم إلى هذه النتيجة التي ما توقعوها ولا كانوا يتوقعونها قط.

أما الأعداء لهم لم يكونوا يصدقون بأن أبطال سلمة سوف ينسحبون منها، فلم يجرؤوا على دخولها إلا بعد ثلاثة أيام من انسحاب المدافعين عنها بعد أن تأكدوا أن أحداً لا يرد على نيران أسلحتهم التي كانوا يطلقونها على البلدة طوال هذه الثلاثة أيام إذ أنهم كانوا يخشون من أن أهالي سلمة يدبرون لهم مكيدة إذا ما قاموا باقتحامها، لمعرفتهم طوال هذه المدة السابقة بمنعة استحكاماتها وبسالة المدافعين عن هذه الاستحكامات التي أذاقتهم الأمرين.. وهكذا سقطت بلدة سلمة التي كانت تشكل شوكة حادة في حلق العدو وانتقلت ساحة المواجهة بعد سقوط بلدة سلمة إلى مدينتي اللد والرملة وبلدة العباسية التي لم يتأخر سقوطها واحتلال العدو لها بعد سقوط بلدة سلمة كثيراً إذ تمكن الأعداء من احتلال بلدة العباسية بعد أسبوع واحد فقط من سقوط بلدة سلمة حيث تمكن اليهود من احتلالها في 5/5/1948.