النزعات الماديّة في الفلسفة العربية الإسلاميّة
حسن مروّه
الجزء الأوّل
دار الفارابي بيروت
الطبعة السادسة 1988
أنجز الجزء الأول من هذا الكتاب في حزيران (يونيو) 1978
بالإمكان تحميل الكتاب عبر :
جزء1
http://www.4shared.com/file/33964861...____1.html?s=1جزء2
http://www.4shared.com/file/34146680...____2.html?s=1جزء3
http://www.4shared.com/file/33158965...____3.html?s=1المقدمة
هذا الكتاب يقدم طريقه في التعامل مع التراث الفكري العربي_الإسلامي تعتمد منهجيه علميه لا تزال تخطو خطواتها الأولى إلى المكتبة العربية من قبل المؤلفين العرب.
فمنذ العصر الوسيط الذي صدر عنه تراثنا الفكري بمختلف أشكاله حتى اليوم, ظلت دراسة هذا التراث رهن النظرات والمواقف المثالية والميتافيزيقية التي تتفق جميعها, بمختلف مذاهبها وتياراتها على خط مشترك تحكمه رؤية أحادية الجانب للمنجزات الفكرية في العصر العربي_الإسلامي الوسيط, أي رؤية هذه المنجزات (في استقلاليه مطلقه عن تاريخيتها).
بمعنى أن هذه الرؤية ظلت قاصرة عن كشف العلاقة الواقعية الموضوعية غير المباشرة بين القوانين الداخلية لعملية الانجاز الفكري وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي.
ولذا بقي تاريخ الفكر العربي_الإسلامي تاريخا ذاتيا سكونيا أو "تاريخ", لقطع صلته بجذوره الاجتماعية, أي بتاريخه الحقيقي الموضوعي.
إن المنهج المادي التاريخي وحده القادر على كشف تلك العلاقة ورؤية التراث في حركيته التاريخية...
راجع:
محمود أمين العالم: معارك فكرية, كتاب الهلال, العدد 177 , ديسمبر 1965.
هادي العلوي: نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي, مطبعة الإرشاد بغداد 1971.
طيب تيزيني: مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط, دار دمشق 1971.
إن مسألة إعادة النظر في هذا التراث ليست جديدة, أي أنها ليست وليد هذه الحقبة الأخيرة, فليست إذا تلك المحاولات التي اشرنا إليها قائمه في فراغ تاريخي, وإنما هي وجه تحولي جديد لمسألة بدأت منذ أكثر من قرن.
بدأها فريق من المفكرين العرب معبرين بعفويه في المجال الفكري عن بداية التخلخل _موضوعيا_ في علاقة البنى الاجتماعية الإقطاعية العربية بسيطرة الإقطاعية العسكرية الحاكمة في دولة الخلافة العثمانية التركية.
كان هذا التخلخل , عند بدايته , أثرا شبه مباشر من آثار تفاقم المسألة المعروفة باسم "المسألة الشرقية" في مصطلح السياسة الدولية لعصر انتقال الرأسمالية إلى مرحلتها الامبريالية.
كانت "المسألة الشرقية" مظهرا للصراع بين مطامع الدول الامبريالية الأوروبية حول تركة "الرجل المريض" _الدولة العثمانية_ أي حول مداخل الشرق : البلدان العربية.
عامل أخر كان يؤدي دورا مؤثرا في ما سمي ب "النهضة العربية" التي كانت في الواقع الشكل الجنيني لما سيصبح حركة التحرر الوطني العربية الحاضرة.
نعني بالعامل الآخر ذاك: احتكاك أولئك المفكرين والمثقفين , فكريا , مع الحركات الاجتماعية والسياسية والفكرية في الغرب الأوروبي خلال القرن التاسع عشر.
كانت حركة "النهضة" تتنامى وتتوسع بين أوساط المثقفين والضباط والطلبة العرب بتأثيرات متفاوتة من كلا العاملين السابقين, وفي أوساط البرجوازية التجارية النامية ( لبنان , مصر , سوريه ) بدافع من عوامل التناقض بين مصالح هذه البرجوازية وطابع العلاقات الإقطاعية المرتبطة بسيطرة الدولة التركية العثمانية المنهارة, واقتران هذا العامل بطموح البرجوازية المذكورة لربط مصالحها بالاتجاه نحو الغرب الرأسمالي.
في حين كانت هذه الحركة تتنامى هكذا , كانت تنمو في أوساط الجماهير الشعبية العربية بذور المشاعر القومية وينمو معها نزوع هذه الجماهير إلى التخلص من سيطرة الحكم التركي العثماني المستمر منذ بضعة قرون.
لقد انعكست هذه المشاعر _أول الأمر_ في شكل من الاعتزاز القومي بمنجزات عصور الازدهار الحضاري في التاريخ العربي الوسيط , كحافز أولي لاستشعار الوجود القومي في الحاضر , الذي سيتحول إلى حافز تحرري وطني فيما بعد.
منذ أخذت تتشكل المشاعر القومية لدى الجماهير العربية بشكل اعتزاز قومي بالماضي , أخذ ينعكس هذا الاعتزاز في الأدب وأشكال الفكر الأخرى تطلعا إلى تراث هذا الماضي بمنجزاته الثقافية المختلفة , ولكن هذا التطلع بدا بمحاولات تتجه إلى تقليد أساليب التراث, والتعصب له والتفاخر به على نحو من (المبالغة المفرطة) وبعث أصوله تعليما ونشرا وشرحا , أي تكراره مشوها دون إضافة أو تطوير أو إعادة نظر في أساليبه ومضامينه.
لذلك كانت الرجعة إلى التراث حركه بدائيه رجعيه بأسلوبها تقدميه بدوافعها كتعبير عن التحفز القومي لمواجهة التحديات الاستعمارية القديمة (التركية) ثم الجديدة (الامبريالية الغربية).
وبعد الحرب العالمية الأولى تحولت الحوافز القومية السابقة إلى انتفاضات وثورات وطنيه مسلحه وتحولت حركة "النهضة" الفوقية إلى حركة تحرر وطني تتعمق في الأرض الجماهيرية شيئا فشيئا , بدأت حركة التطلع للتراث تتحول أيضا من كونها تكرارا محضا للتراث الثقافي إلى كونها حركه لإعادة النظر لا في منجزات هذا التراث فقط , بل لإعادة النظر كذلك في النظريات العنصرية الاستعمارية الأوروبية حول تراث الشعوب المستعمرة (الكومبرادور).
وهي النظريات التي كانت ترمي إلى استصغار شأن التاريخ والثقافة القومية لهذه الشعوب , بل قطع علاقتها بهما وإفراغ ماضيها من كل ما يعطيها حق الاعتزاز به, كما ترمي إلى إبراز هذه الشعوب أنها قاصرة عرقيا وتاريخيا عن أن يكون لها حق الانتماء إلى أسرة الشعوب القادرة على إنتاج حضارة أو ثقافة , لا ماضيا فقط , بل (( حاضرا ومستقبلا كذلك )).
إن اتجاه التعامل مع هذا التراث إلى هذه الوجهة الجديدة كان _بحد ذاته_ اتجاها تقدميا.
غير أن الممارسات العملية لهذا الاتجاه كانت تقترن بمواقف لا تتناسب مع مرماه التقدمي , أو هي تتناسب عكسيا معه , لان هذه المواقف اتخذت الوجه البرجوازي في نظرتها إلى قضية "التراث" , أي أنها اتخذت الطابع ( الشوفيني القومي المعادي لديمقراطية الثقافة ) من حيث علاقاتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية معا .
فمن حيث العلاقات الداخلية كان الموقف البرجوازي من التراث يتجاهل طابعه الاجتماعي ليؤكد جوانبه الذاتية وكونه انجازا فرديا أبدعته مواهب "النخبة" بمعزل عن علاقتها بالواقع الاجتماعي التاريخي وبالقوى البشرية المنتجة ودور هذه القوى في إنتاج الأساس المادي لمنجزات التراث , كما كان الموقف البرجوازي هذا يسلط الأضواء , حصرا , على الأشكال (( الغيبية )) وحدها من التراث .
أما من حيث العلاقات الخارجية فكان هذا الموقف لا يحاول تجاهل الصلات المتبادلة بين التراث الثقافي القومي والثقافات القومية والعالمية الأخرى , فقط , بل كان يتجه أيضا إلى إحلال نظريات عنصريه جديدة محل النظريات العنصرية الأوروبية في تقويم التراث القومي للشعوب الآسيوية والإفريقية .
مثلا:
" الإفريقيون بدائيون إلى درجة أنهم يمثلون بالنسبة للحضارة ما تمثله تقريبا ورقة بيضاء ".
نذكر مثالا آخر ظهر في القرن التاسع عشر مؤداه أن هناك طريقتين للتفكير : طريقة الشرق , وطريقة الغرب , وان الأولى طريقه غريزيه وتركيبيه , وان الثانية طريقه منطقيه تحليليه.
أو:
" الشرق شرق , والغرب غرب , ولن يلتقيا ".
نظرية مركزية أوروبا:
مركزية الفلسفة , أي نفي وجود الفلسفة في غير أوروبا , وتمركز الفكر الفلسفي في هذه القارة .
إن رد الفعل البرجوازي , في الشرق , على أمثال هذه النظريات العنصرية الغربية , كان من نوع الفعل نفسه , أي من طبيعته العنصرية .
بمعنى انه ظهرت مواقف من التراث تحمل طابع الفكر القومي البرجوازي فنقلتنا هذه المواقف من " نظرية المركزية الأوروبية للثقافة" إلى "نظرية المركزية الشرقية"..
على مثال ما ورد في تقرير للفيلسوف الباكستاني محمد شريف قدمه للمؤتمر الفلسفي الثاني عشر المنعقد في البندقية العام 1958, من أن :
( الفلسفة الإسلامية هي التي أعطت الحركة الإنسانية مبادئها الأولى , وعرفت الغرب على العلوم التاريخية والأسلوب العلمي ووضعت أسس النهضة الايطالية وأثرت على الفكر الأوروبي المعاصر حتى عمانوئيل كانت ).
إن لهذه الاستنتاجات أساسا تاريخيا دون شك , ولكن وضعها بهذه الصيغة الاطلاقية التي تتجاهل العوامل التاريخية الأخرى جعلها عرضه للنقد العلمي وأضفى عليها طابع التعصب كبديل للتعصب الغربي المرفوض .
وهناك شكل أخر لهذه المواقف القومية البرجوازية من التراث يتجلى في التيارات السلفية الجديدة التي تصطبغ بصبغة " الحداثة ".
ومن هذه التيارات ما جاء ببدعة " تحديث " التراث , بمعنى ( قسر ) (( وليس فسر )) أفكار الماضي على التطابق والتماثل بينها وبين أفكار الحاضر , وتجاوز كل مراحل التاريخ وما حدث خلال هذه المراحل من تعديلات جذريه في أفكار التراث , ومن ظروف اقتصاديه واجتماعيه ومن فتوحات علميه خلقت في عالم الحاضر أفكارا لم يكن من الممكن تاريخيا أن تنشأ خارج هذه الظروف وهذه الفتوحات .
فقد رأينا من أشكال هذه البدعة ( تحديث التراث ) ما سمي حينا " الاشتراكية العربية " وحينا ب " الاشتراكية الإسلامية " ( وجد بعض الدعاة في سيرة أبو ذر الغفاري دعامة لفكرتهم )..
ورأينا من يحاول أن يجد في الإسلام مبادئ للرأسمالية , ورأينا كتبا تؤلف بحثا عن "المادية" في النصوص الإسلامية (عبد المنعم خلاف: المادية الإسلامية وأبعادها, القاهرة دار المعارف) ,
أو بحثا عن "الشخصانية الإسلامية" (محمد عبد العزيز الحبابي _المغرب_ : الشخصانية الاسلاميه دار المعارف بمصر 1969) ,
أو عن "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي" (عبد الرحمن بدوي : الإنسانية والوجودية في الفكر العربي).
بل لقد رأينا من "استنبط" العلوم الطبيعية في القرآن كما "يعرفها" عصرنا نفسه هذه العلوم (يوسف مروة: العلوم الطبيعية في القرآن, بيروت . انظر صادق جلال العظم : تقد الفكر الديني: بيروت دار الطليعة).
لقد استحدث الفكر القومي البرجوازي هذا الشكل الجديد من السلفية كتعبير آخر عن إيديولوجية البرجوازية العربية المعاصرة.
إن "تحديث" الأفكار والفلسفات التراثية , القديمة أو الوسيطة , بهذه الطريقة يؤدي _كما اشرنا_ إلى الأخذ بفكرة التماثل بين أفكار الماضي وأفكار الحاضر , أي أفكار القرن العشرين ذاته , وهي فكرة ميتافيزيقية تنفي "تاريخية" الفكر وحركيته وتحكم عليه بالوقوف والجمود , فضلا عن كونها تنقل ظروف مثل الرأسمالية والاشتراكية والوجودية والشخصانية بمفاهيمها المعاصرة من مناخ علاقتها الاجتماعية وعوامل وجودها الموضوعية في عصرنا إلى مناخ تاريخي ما كان يمكن أن يكون لها فيه سبب للوجود بوجه مطلق .
انه لصحيح جدا القول بأنه ليس من فلسفة وجدت (في فراغ) أو (من فراغ) , بل إن كل فلسفة جديدة ظهرت إنما كانت مستنده إلى كل التراث الفلسفي السابق لها , واتخذت من هذا التراث جزءا من مكوناتها .
قضية الموقف من التراث الروحي القومي على أساس جديد , أساس تقويمه واستيعابه وتوظيفه لمصلحة الصراع الأيديولوجي بين (الامبريالية العالمية وحركات التحرر الوطني).
أصبحت هذه القضية معقده بقدر ما أصبحت مشكله من ابرز مشكلات الفكر المعاصر .
بناء على ما سبق نرى أن حل مشكلة العلاقة , حلا علميا , بين حاضرنا العربي , بكل أبعاده الوطنية والاجتماعية والفكرية , وبين تراث ماضينا الفكري , يتوقف على توفر الوضوح العلمي لدينا عن حقيقتين :
أولهما, حقيقة المحتوى الثوري لحركة التحرر الوطني العربية في حاضرها وفي آفاق تطورها المستقبلي .
وثانيهما, حقيقة الترابط الجوهري بين ثورية هذا المحتوى وثورية الموقف من التراث .
بمعنى ضرورة كون الموقف من التراث منطلقا من الحاضر نفسه , (أي من الوجه الثوري لهذا الحاضر).
((أما الحقيقة الأولى)) , فيوضحها ويؤكدها النظر المتعمق في اتجاهات المسار العام لحركة التحرر الوطني العربية , لاسيما مسارها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى هذه الأيام .
"يتجلى" الوعي التحرري الوطني والاجتماعي لدى الجماهير الوطنية والشعبية العربية :
1_ في تعمق العداء لقوى الاستعمار والامبريالية وللقوى الضالعة معها أو التابعة لها أو المشاركة إياها عملية اغتصاب الحقوق الوطنية للشعوب واستلاب أرضها وخيراتها وقمع مطامحها القومية والتحررية كشأن الصهيونية العالمية و "دولتها " الغاصبة في فلسطين.
2_ تحول هذا العداء إلى عداء للنظام الاجتماعي الذي تمثله قوى الاستعمار والامبريالية . نعني نظام الاستثمار الرأسمالي.
3_ هذا الوعي أصبح وعيا طبقيا في الوقت نفسه , وأضفى على الطابع الوطني لنضال الجماهير العربية طابع النضال الاجتماعي أيضا بحيث تكاد تنعدم الحدود الفاصلة بينهما .
4_ أخذت تظهر ملامح تفكك في العلاقة بين طرفين أساسيين من أطراف هذه الحركة :
_ أولهما الطرف الذي يضم بعض القيادات العليا لبعض الأنظمة العربية ومن يدعمها من أركان "الطبقة الجديدة" التي ولدتها هذه الأنظمة .
_ وثانيهما الطرف الذي يضم جماهير العمال والفلاحين الفقراء والمثقفين الثوريين والجنود وفئات عريضة من البرجوازيات الصغيرة والمتوسطة...
التمايز بين هذين الطرفين من أطراف حركة التحرر الوطني العربية بدأ يظهر تجاه القضايا القومية الملتزمة بها هذه الحركة وفي طليعتها ( قضية التحرر الوطني للشعب العربي الفلسطيني بكامل أجزائها ).
المؤشرات تنبئ أن الطرف الأول (السلطة وأعوانها) يمكن أن يلقي سلاح النضال المعادي للامبريالية (الأمريكية) والقوى الضالعة معها والتابعة لها (الصهيونية والرجعية العربية) , لينتقل إلى موقع ((أصدقائها الحقيقيين)) , ذلك في حين أن العداء للامبريالية وحلفائها وتوابعها هو الذي يؤلف _بالأصل_ جوهر العلاقة المرحلية بين أطراف حركة التحرر الوطني العربية ككل .
أما قوى الطرف الآخر (الجماهير) فهي تزداد رسوخا في موقعها النضالي...
((الحقيقة الثانية)) , نعني حقيقة الترابط الجوهري بين المحتوى الثوري لحركة التحرر الوطني العربية في مرحلتها الحاضرة وبين الموقف الثوري من التراث الفكري العربي_الإسلامي .
ماذا نقصد بهذه الحقيقة .. ؟
بل ماذا نقصد بإطلاق صفة الحقيقة عليها .. ؟
ليس بالرغبة الذاتية يكون "الشيء" حقيقة أو لا يكون , ذلك بأن الحقيقة ليست "ذاتيه" إنها "موضوعيه" , وإلا فليست بحقيقة إطلاقا , بل وهما أو تصورا أو رأيا أو رؤيا .. وهنا جوهر المسألة في ما نحن بصدده .
بمعنى انه من غير الطبيعي _من غير الممكن_ أن نكون ثوريين في موقفنا من قضايا الحاضر , ونكون _مع ذلك_ غير ثوريين في موقفنا من تراث الماضي .
الثورية موقف شمولي , كلي , لا يتجزأ .
إن الفارق بين التراث نفسه ومعرفة هذا التراث , تعني أن معرفة التراث إضافة خارجية ترد إليه من مصادر متعددة.
لهذا هي (معرفة التراث) تتعدد وتختلف , وهو (التراث) واحد لا يتغير .
إن تصنيف أشكال معرفة التراث الفكري , في هذا العصر وذاك , يقدّم لنا نماذج كثيرة متشابهة , وأحيانا نماذج تكاد تكون متماثلة , بقدر ما يقدم نماذج متخالفة أو متناقضة .
هذا الواقع يحملنا على الاستنتاج أن كلا من التشابه والتخالف والتناقض بين تلك "الأشكال المعرفية" إنما هو صادر عن :
منطلقات "اجتماعيه" لا "فرديه" , و "موضوعيه" لا "ذاتيه" .
( سنرى في نتائج هذا الاستقصاء أن كل "معرفه" عن هذا التراث ذاته صدرت من مؤرخ أو مفسر أو دارس , قديما وحديثا , إنما يكمن وراءها موقف أيديولوجي) . والموقف الأيديولوجي هو _بالأساس_ موقف طبقي.
هذا _بالطبع_ ليس أمرا يختص بالتراث العربي الإسلامي , بل هو قانون , أو بحكم القانون العام , ينطبق هنا كما ينطبق على كل نظر في كل تراث للبشرية في مختلف عصورها الحضارية .
كانت المثالية تحاول رفض إدخال المادية في الفلسفة محتجة بالمعادلة الآتية:
(المادية عدو للدين , والفلسفة والدين واحد , فالمادية إذا ليست من الفلسفة , وليست من موضوعات الفلسفة).
هذا الموقف ليس أكثر من شكل من أشكال "حزبية الفلسفة" المثالية .
بعض أشكال المادية الفلسفية , كما عرفت في تاريخ تطور الفلسفة العالمية على النحو الآتي :
ا _ المادية الساذجة : هذه أول أشكال المادية عرف في التاريخ عند أقدم الفلاسفة , لقد بني هذا الشكل من المادية على موقف ديالكتيكي (جدلي) عفوي , من ظواهر العالم .
ب_ المادية الميتافيزيقية : هي مادية المفكرين الأوروبيين في القرنين : السابع عشر والثامن عشر , وأوائل القرن التاسع عشر . كانت المادية الميتافيزيقية هذه تعبر عن أيديولوجية البرجوازية الناشئة وسائر القوى التقدمية في ذلك العصر .
ج_ مادية الديمقراطيين الثوريين : ظهر شكل المادية هذا خلال القرن التاسع عشر في بعض بلدان أوروبة الشرقية وآسية , في عصر انتقال هذه البلدان من الإقطاعية إلى الرأسمالية . وهي تعبر بالأساس عن إيديولوجيه القوى الفلاحية الثورية بالأكثر .
د_ المادية الديالكتيكية : هذه هي الشكل الأخير للمادية , تاريخيا , حتى مرحلتنا الحاضرة .
( أما المادية في الفلسفة العربية_الاسلامية , فهي على غرار مادية القرون الوسطى في أوروبة , من حيث أنها كانت تتخذ أشكالا غامضة تتخفى بين ثنايا الدراسات اللاهوتية الاسلامية ).
_ الفلسفة شكل خاص من أشكال الوعي الاجتماعي _
تطور مفهوم الفلسفة بين العام والخاص , يقول ابن سينا في طرحه , سواء من حيث كون العلاقة بينهما مقوله وجوديه في الطبيعة أم من حيث كونها مقوله منطقيه في التفكير , هذه العلاقة بين العام والخاص عند ابن سينا تتخذ ثلاثة أشكال :
_ يمكن أن يكون العام (الماهية) داخل الخاص (الشيء = الجزء أو المنفرد) , وهذا هو موقف هيغل وفي هذا الشكل تبرز وجهة نظر أرسطو أيضا , وفيه تكمن فكرة (الحلولية).
_ يمكن أن يكون العام قبل وجود الأشياء , وهنا موقف مثالي أفلاطوني .
_ يمكن أن يكون العام بعد وجود الأشياء , وهنا موقف مادي .
إن مقولة "الحضارات المقفلة" أو "الثقافات المقفلة" , التي تتحدث عنها الأدبيات البرجوازية لتاريخ الفلسفة , لا تنطبق هذه المقولة على الحضارات الصينية مثلا , أو الهندية , أو العربية .
هذه أربعة من الأساليب الفكرية التي كانت في أساس الكثير من الممارسات "المعرفية" , في عصور مختلفة , لاستيعاب ما أنجزه المفكرون العرب_الإسلاميون في العصر الوسيط من أعمال فكريه في ميادين متنوعة :
في أصول العقائد , وأصول الفقه , والتشريع , والفلسفة , والعلوم الطبيعية والرياضيات , والآداب ...
أولا_ أسلوب النظر إلى تطور الفكر , لاسيما الفلسفي منه , على أساس انه (تاريخ أفكار فقط) أو نتاج فكر "شخصي" تنحصر علاقاته بأشخاص منتجيه , دون النظر إلى أية علاقة له أو لهؤلاء "الأشخاص" بظروف العصر الذي ينتسبون إليه ولا بخصائص المجتمع الذي عاشوا وفكروا ضمن علاقاته الاجتماعية ...
ثانيا_ أسلوب النظر إلى علاقة التبادل بين ثقافات الشعوب , بعضها مع بعض , نظرا (ميكانيكيا) صرفا , يكتفي بأن تنتقل ثقافة شعب إلى شعب آخر , بوسيلة ما , لكي تسيطر على تفكير الشعب الذي انتقلت إليه , ولكي تنفي السمات الخاصة لثقافته وتطبع هذه الثقافة بسماتها هي , أي سمات الثقافة الخارجية الوافدة .
بهذا الأسلوب الفكري نظر الكثير من البحوث والدراسات التي اهتمت بالفلسفة العربية_الاسلامية , ولاسيما ما كتبه بعض المستشرقين الأوروبيين من الزعم أن هذه الفلسفة ليست عربيه أو إسلاميه إلا بقدر كونها نسخه عربيه للفلسفة اليونانية التي تبناها العرب الإسلاميون .
وقد انساق إلى هذا الأسلوب في النظر إلى هذه الفلسفة بعض الباحثين العرب المحدثين , فزعم احدهم _مثلا_ أن الروح الاسلامية لم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية ( ... ) ولم يكن عند واحد من المشتغلين بالفلسفة اليونانية من المسلمين روح فلسفيه بالمعنى الصحيح ...
عبد الرحمن بدوي : التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية , القاهرة 1965 .
ثالثا_ أسلوب النظر في تمايز الثقافات القومية على أساس عرقي (عنصري). وهذا أسوأ الأساليب في معالجة قضايا الفكر البشري , لا من حيث كونه ضربا من التفكير المثالي وحسب , بل من حيث كونه _فوق ذلك_ ينطلق من إيديولوجيه استعماريه فاشيه تصنف مراتب الشعوب تصنيفا هرميا تحكمه "نظرية الجنس" التي قذف بها العلم إلى قرار سحيق منذ زمن .
رابعا_ أسلوب النظر التاريخي في التراث . وهو العلاقة بين النتاج الفكري التراثي والظروف التاريخية التي أنجز في إطارها هذا النتاج .
.
.
حاشية هامه ص 41 :
ظهرت الدعوة إلى إلغاء التعامل مع التراث الثقافي العربي بأشكال مختلفة ضمن تيارات فكريه _ أيديولوجيه مختلفة .
ظهرت أولا , في الثلث الأول من القرن العشرين , بشكل دعوه إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية لقطع العلاقة تدريجيا مع هذا التراث ضمن تيارين :
احدهما لبناني (الأب مارون غصن , ثم سعيد عقل ) بدافع سياسي طائفي لعزل لبنان عن محيطه العربي , تعبيرا عن إيديولوجيه البرجوازية اللبنانية الكولونيالية .
ثانيهما في مصر (عبد العزيز فهمي , سلامه موسى ) . وهذا التيار كان تعبيرا عن إيديولوجيه البرجوازية المصرية الناشئة آنذاك على أساس النزعة القومية المصرية المستقلة عن القومية العربية ...
بعد هزيمة 1967 ظهرت الدعوة نفسها بشكل آخر تحت ستار الزعم بان هزيمة العرب في هذه الحرب ترجع إلى عوامل "حضاريه" متأثرة بمرتكزات التخلف "الحضاري" (شعر انسي الحاج , نزار قباني .. مثلا ( ..
.................
القدماء
(( أما النظر الوحيد الجانب إلى فلسفة ذاك العصر فيتمثل , لدى القدماء , بأساليب مختلفة تلتقي جميعها , أو معظمها , على نهج فكري مشترك تسوده الغيبية والذاتية والميتافيزيقية (السكونيه). ))
_ أول ما نلحظه من تجليات هذا النهج ما يروى من تفسيراتهم لحركة نقل العلوم الفلسفية التي نشطت في عصر المأمون .
فقد شاع بينهم تفسير ابن النديم ( _ 385 ه / 995 ) بأن المأمون قد رأى في منامه أرسطاطاليس فسأله بعض الأسئلة , فلما نهض المأمون من منامه طلب ترجمة كتب أرسطو , فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختاره من كتب العلوم القديمة المدخرة في بلاد الروم , فأجابه بعد امتناع , فأخرج المأمون جماعه , منهم الحجاج بن مطر وأبن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم , فأخذوا مما وجودوا ما اختاروا , فلما حملوه أمرهم المأمون بنقله , فنقل ….
( ابن النديم : الفهرست ) .
هكذا , بمثل هذا الأسلوب من التفكير الغيبي والذاتي , بل بمثل هذه البساطة والسذاجة , فسر هذا المؤرخ حركة تاريخية عظيمة الأثر في تطور الفكر العربي _ الإسلامي .
والأغرب من ذلك أن المؤرخين العرب الإسلاميين اللاحقين لابن النديم تناقلوا عنه هذا التفسير دون مناقشة تذكر كأنه من مسلمات الأمور عندهم , فلم يبقى إذن تفسير فرد , بل اتخذ صفة الظاهرة الأسلوبية العامة في فهم أحداث التاريخ الكبرى .
إن سيطرة هذه الظاهرة الأسلوبية حجبت عن أولئك المؤرخين حقيقة أن الصلة بين الفكر العربي _ الإسلامي و "العلوم القديمة" _ أي الفلسفة وما يتبعها من علوم المنطق والطبيعة والرياضيات والطب _ بدأت قبل عصر المأمون , وما كانت تنتظر أن يحلم هذا الخليفة حلمه "التاريخي" ! لكي تبدأ ..
نقول ما كانت تنتظر ذلك الحلم , لان ظروف حركة التاريخ وما خلقته من ضرورات اجتماعيه وتفاعلات فكرية وحاجات حضارية , هي التي عقدت تلك الصلة , بصورة موضوعية , خلال القرنين الأولين للهجرة تدريجيا , وما كان لارسطاطاليس أن "يحظى" بلقاء المأمون في منامه لولا أن هذا الفيلسوف كان موجودا بالفعل في العالم الفكري لمجتمع الخلفاء العباسيين الذين سبقوا المأمون وسبقوا حلمه "الخلاق" ! .
ليس هذا الكلام استهزاء بالمأمون نفسه , وهو الذي أدى دوره العظيم حقا في تطوير تلك الصلة , ولكنه أداة استجابة لظروف مجتمعه وعصره الموضوعية , لا استجابة لحلم طارئ أو لمصادفة عابرة , أو إرادة ذاتيه .
_ ثم نرى هذا النهج يتجلى كذلك , ولكن بأسلوب أخر , في النظر إلى "العقل العربي" من حيث قابليته المعرفية الفلسفية .
فهنا نجد ملمحا من أسلوب النظر العرقي .
هذا الأسلوب بدا القاضي صاعد الأندلسي ( _ 463 ه / 1070) استخدامه بصدد العلوم عند العرب قائلا : " .... وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله عز وجل شيئا منه , ولا هيأ طباعهم للعناية به , ولا اعلم أحدا من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف يعقوب ابن اسحق الكندي وأبا محمد الحسن الهمداني ". ....
( طبقات الأمم) , أما الهمداني الذي يذكره القاضي صاعد هنا فقد ذكره القفطي في أخبار الحكماء وقال أنه مات في سجن صنعاء سنة 334ه = 946م , وهو _ أي الهمداني _ مؤلف كتاب _ سرائر الحكمة _ وكتاب : انساب حمير , وله مباحث فلسفية عن أصل العالم وعن قواعد المنطق والكلام , راجع العقاد : أثر العرب في الحضارة الأوروبية .
واضح من هذا التعميم الذي شمل من تاريخ الفكر العربي حتى مرحلتي الكندي والهمداني أن القاضي صاعد لم يحصر حكمه في نطاق الجاهلية العربية كما هو ظاهر من سياق كلامه في الكتاب , بل جعل الحكم مطلقا ينطبق على العرب كجنس من البشر , في كل عصور تاريخهم , لا كمجتمع يمر في ظروف معينة خلال مرحلة تاريخية معينة .
وسنرى هذا الأسلوب الفكري العرقي يتردد استخدامه في معالجة الفلسفة العربية_الاسلامية لدى غير القاضي صاعد من القدماء , ولدى الباحثين المحدثين من العرب والمستشرقين .
( يستثنى من القدماء هنا ابن خلدون , فهو لا يرى في طبيعة العرب قصورا عن تلقي الفلسفة , لأنه لا يصنف القابليات المعرفية للشعوب على أساس عرقي , بل هو يردها إلى عوامل طبيعية واجتماعيه , والى هذه العوامل نفسها يرد واقع كون أكثر الفلاسفة في تراثنا من غير العرب , راجع المقدمة ) .
فالقضية عند صاحب "طبقات الأمم" هي إذن أن العرب "جنس" غير قابل بالطبع والفطرة لتلقي علم الفلسفة أو لتلقي المنحة الإلهية في هذا المجال .
وإذ هو استثنى الكندي والهمداني من هذا التعميم , فإنما كان الاستثناء للتدليل على وجود القاعدة .
ذلك يعني أن صاحب "طبقات الأمم" يضع فاصلا بين فلاسفة التراث على أساس الأنساب القومية الأصلية , بدليل النص الذي نتحدث عنه أولا , وبدليل الثناء والإعجاب اللذين أضفاهما على الفارابي في مكان آخر من الكتاب ثانيا , لاعتباره الفارابي ذا أصل غير عربي .
إن الفصل بين فلاسفة هذا التراث بناء على اختلاف الأصول القومية , هو _ عدا كونه يتضمن نظرة عرقية مرفوضة علميا _ يتضمن كذلك (( فكرة تفتيت وحدة )) التراث الفكري العربي_الإسلامي .
وهي وحدة غير قابلة للتفتيت والتجزيء على أساس عرقي إطلاقا .
ذلك أن هذه الوحدة قائمة على قاعدتين متلازمتين تلازما جدليا تاريخيا وموضوعيا هما : العربية , والإسلامية .
هذا التراث عربي كله مهما كانت الأصول القومية لمنتجيه .
هو عربي لا من حيث لغته المجردة , بل من حيث أن بناءه اللغوي هو في الوقت نفسه بناء فكري واجتماعي وسياسي معا , وهو أيضا بناء فيلولوجي وانتولوجي وسيكولوجي في آن واحد .
أما إسلامية هذا التراث فهي مرتبطة بهذا البناء بكل علاقاته الداخلية هذه , ارتباط كينونة وصيرورة .
فلا إسلامية للتراث منفصلة عن عربيته .
لهذا كله لا يصح النظر إلى مبدعي هذا التراث على أساس أن هذا عربي وذاك غير عربي .
بل الصحيح أن كلهم عربي فكريا وثقافيا , وكلهم إسلامي كذلك , وهذا الشمول ينتظم غير المسلمين ممن أسهموا في صنع هذا التراث بأي شكل من أشكال الإسهام المعروفة تاريخيا ( كترجمة الثقافات والفلسفات اليونانية والفارسية والهندية مثلا ) .
أما النظر الوحيد الجانب إلى فلسفة ذاك العصر فيتمثل , لدى القدماء , بأساليب مختلفة تلتقي جميعها , أو معظمها , على نهج فكري مشترك تسوده الغيبية والذاتية والميتافيزيقية (السكونيه) .
- وقد وقع الشهرستاني نفسه في اسر نوع آخر من أساليب النظر غير الواقعية وغير العلمية إلى هذا التراث .
يقول الشهرستاني عن "المتأخرين من فلاسفة الإسلام" أنهم "قد سلكوا كلهم طريقة ارسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به , سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين . ولما كانت طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة , ونظره في الحقائق أغوص , اخترت نقل طريقته من كتبه ( ... ) وأعرضت عن نقل طرق الباقين وكل الصيد في جوف الفرا " .... ( الشهرستاني : الملل والنحل ) .
من الإنصاف العلمي للشهرستاني أن لا نقصر الكلام هنا على "المأخذ الأسلوبي" الذي نأخذه عليه في هذا النص , أو هذا الموقف , بتعبير أدق .
بل علينا , قبل شرح المأخذ , أن نحدد الدور الكبير الذي أداه الشهرستاني لتاريخ الفلسفة . ( عايش الشهرستاني القرنين الخامس والسادس الهجري ) .
فان كتابه "الملل والنحل" يتميز بان ظهوره كان أشبه بمرحلة كاملة في صيرورة تاريخ الفلسفة علما .
وقامت فكرة تأليفه على أساس وضع تاريخ الفلسفة العالمية كلها حتى عهده هو . ويبدو أن المؤلف كان يتمتع بمعرفة جيدة لمصادر عمله , وقد فسر فلسفات اليونان والفرس والهنود والعرب بصورة متسلسلة تتميز بخصائصها . إن لهذا العمل فضلا كبير الأهمية من حيث انه حاول وضع الحد الفاصل بين الدين والفلسفة .
وهذا لا يرجع _ كما يبدو _ إلى صفة متميزة في ترتيب المواد عنده فقط , بل يرجع _ قبل هذا _ إلى المبدأ الخاص الذي اعتمده الشهرستاني في أسلوب البحث .
فقد كان هذا المبدأ بحد ذاته , في تلك المرحلة التاريخية , ذا أهمية تقدمية كبيرة .
فهو يقول في مستهل الجزء الثاني من الكتاب : " الباب الأول , أهل الأهواء والنحل من الصابئة , والفلاسفة , وآراء العرب في الجاهلية , وآراء الهند . وهؤلاء يقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد كما ذكرنا . واعتمادهم على الفطر السليمة , والعقل الكامل , والذهن الصافي " .
فالشهرستاني في هذا النص لم يضع فاصلا بين الدين والفلسفة فحسب , بل أشار _ بموضوعية _ إلى اعتماد الفلاسفة على : " الفطر السليمة , والعقل الكامل , والذهن الصافي " , ولا يناقض ذلك ما وصف به الفلاسفة , من دهريين وطبيعيين وإلهيين , بعد ذلك , من أوصاف تشعر بتسخيفهم .
فانه لم يخرج عن كونه ينطلق بدراسته الفلسفات عن كونه مسلما أشعري المذهب .
ولكن يكفي منه أنه فصل بين الدين والفلسفة , واعترف بالفلسفة بكونها تعتمد مبادئ لا تنكرها .
يضاف إلى ذلك أن الشهرستاني جاء بمبدأ تمييز الفلسفات بعضها عن بعض على أساس التيارات , لا على أساس الآراء والأفكار الشخصية المحض .
وهذا أكبر الفضل الذي قدمه لحركة تطور الفلسفة .
فقد صنف الفلاسفة إلى :
1_ الماديين أو الطبيعيين الذين قال أنهم يعتمدون العالم المحسوس وسماهم بالطبيعيين الدهريين .
2_ الفلاسفة الإلهيين الذين قال أنهم قد ترقوا عن المحسوس وأثبتوا المعقول ونفوا الأحكام والشريعة والإسلام , وأنهم قالوا عن الشرائع بأنها أمور مصلحيه عامة وان الحدود والأحكام والحلال والحرام أمور وضعية , وعن أصحاب الشرائع أنهم رجال لهم حكمة عملية .
وفي تقسيم آخر سماه التقسيم الضابط قال :
" بين الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول , وهم السفسطائية .
ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول , وهم الطبيعية .
ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود الأحكام , وهم الفلاسفة الدهريين .
ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام , وهم الصابئة .
ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة ما , ولا يقول بشريعة نبينا محمد , وهم المجوس واليهود والنصارى .
ومنهم من يقول بهذه كلها وهم المسلمون " .
يمكن أن نرى , في محاولة الشهرستاني هذه أيضا , خطوة أولى نحو تمييز الفلاسفة الماديين من الفلاسفة المثاليين .
وهنا نلحظ تميزا أخر له في "الممل والنحل" , هو كونه ينظر للفلسفة (كمسرح للصراع) بين هاتين المجموعتين من الفلاسفة : مجموعة الماديين , ومجموعة المثاليين .
إن هذا مبدأ هام جدا كذلك يظهر في تلك المرحلة من تاريخ الفلسفة , لان معنى ذلك أن هذا المؤرخ قد حاول اكتشاف المصدر والقوة المحركين لتطور تاريخ الفلسفة .
إن كل هذه المبادئ التي تحدثنا عنها تجعل تاريخ الشهرستاني للفلسفة في مستوى رفيع من الأهمية , لا من حيث المواد المكدسة فيه , بل من حيث وضعت فيه أسس للمبادئ الهامة جدا في أساليب البحث , وهي المبادئ التي طورها , بعد ذلك , الفلاسفة الآخرون في مؤلفاتهم .
إن هذه الميزات الجليلة الشأن للشهرستاني مؤرخ الفلسفة , لا تمنع أن نجد عنده مأخذا أسلوبيا في النص السابق المتعلق بفلاسفة التراث العربي_الإسلامي .
فان القول بأنهم سلكوا كلهم طريقة أرسطو في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين , هو قول يخالف الواقع ويخالف النظر العلمي في علاقة تفاعل الثقافات المختلفة بوجه عام , فضلا عن الفلسفات المختلفة .
أما من حيث الواقع فان الدراسة المتعمقة لهؤلاء الفلاسفة تكشف عن مخالفات كثيرة عندهم لطريقة أرسطو , رغم أنهم لم يبعدوا عن النهج الأرسطي بصورة حاسمة , كما تكشف أن للأفلاطونية المحدثة تأثيرا جليا في أسس نظرياتهم , ولاسيما ما يتعلق بنظرية الفيض .
وفي كتابنا الذي نقدمه هنا , محاولات للكشف عما افترق به فلاسفة تراثنا عن أرسطو وغيره من الفلاسفة المتقدمين .
بل حتى إذا أخذنا بالزعم القائل أن أعمال فلاسفة هذا التراث اقتصرت على الشرح والتفسير للنصوص الكلاسيكية , فان النظرة العميقة إلى الشرح والتفسير هذين تكشف عن القيمة المتميزة التي احتوياها .
لقد عنينا بهذا المأخذ على الشهرستاني , لأنه تعبير عن "أسلوب" شائع في معالجات القدماء (وهنا كذلك نستثني ابن خلدون ) لتراث الفلسفة العربية_الاسلامية نجد له نماذج كثيرة عندهم , مثلما هو أسلوب شائع كذلك في مباحث المستشرقين والعرب المحدثين عن هذه الفلسفة .
.
.
تعقيب : من الجيد هنا أن نرى في تقييم الدور التاريخي للشهرستاني , للمفكرين الماديين , تقييما متقدما وعلميا للرجل ودوره التاريخي .
عن التقييم والدور الذي يضعه الإسلاميين أنفسهم للشهرستاني .
لنقول : أن الإطلاع على جميع الآراء والتيارات الفكرية وخصوصا منها المعارضة للمدرسة الفكرية التي ينتمي إليها الإنسان بإرادته , تزيده معرفة وغنى وثبات ويقين .
لقد اعتمدنا التصنيف المنهجي أساسا في استقصاء مواقف المؤرخين والباحثين من تراثنا الفكري .
_ القدماء
_ المحدثين من العرب والشرقيين
_ المستشرقين وسواهم من الغربيين
_ القدماء
لدى استقصاء مواقف القدماء سنرجع إلى ابعد الأزمنة , الزمن الذي لم يكن التراث فيه قد أصبح تراثا , بل كان لا يزال حاضرا عصره , أي الزمن الذي كان لا يزال يولد فيه هذا التراث ويتوالد , ينمو ويتطور , يختصم فيه الناس ويختصم هو معهم , يثير فيهم المشكلات ويثيرون هم له المشكلات .
ففي زمن نشأته , وفي أزمان تحولاته من:
_ الأشكال اللاهوتية الاسلامية الصرف
_ الأشكال اللاهوتية_العقلانية (علم الكلام المعتزلي)
_ شكله الفلسفي الأول ( الكندي )
_ أشكاله الفلسفية الناضجة المستقلة , من حيث المضمون , عن الفكر اللاهوتي ( بدءا من الفارابي (
في كل زمن من هذه الأزمان كان الفكر_التراث يستثير ويستثار , يخاصم ويتلقى الخصومات , كان "حزبيا" دائما وتتحداه " الحزبية " دائما .
وكل زمن من هذه الأزمان كان موضوع جدل واختلاف , وكان الجدل والاختلاف فيه شكلا من أشكال الصراع الفكري والإيديولوجي ينعكس فيه _بحدود متفاوتة_ نوع الصراع الاجتماعي والسياسي في هذه المرحلة وتلك من تاريخ المجتمع العربي_الإسلامي .
كانت مسالة القدر أول مسألة خاض فيها الفكر العربي _ الإسلامي باتجاه عقلي وعلى أساس " حزبي " , أي على قاعدة فكريه ومن منطلق سياسي ( معارضة الحكم الأموي ).
ومنذ أخذت هذه المسألة تحتل المركز _ المحور بين المسائل الفكرية الكبرى المثارة بين القرنين الأول والثاني الهجريين (منتصف القرن السابع) , أخذت المواقف , المؤيدة والمعارضة , تبرز في ساحة فسيحة يحتدم فيها الصراع على أشده , واستخدم معارضو الفكر القائل بنفي القدر سلطة الدين في إرهاب هذا الفكر , كما فعل المصعب الزبيري إذ نقل عن مالك ابن انس (96_179 ه) انه قال : "الكلام في الدين اكرهه , ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه , نحو الكلام في رأي جهم والقدر وما أشبه ذلك ... " .... ( ابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم وفضله (.
ثم بالغوا في استخدام الدين ذريعة لتشويه فكرة نفي القدر حتى أطلقوا على دعاتها اسم "القدرية" رغم أن هذا الاسم جدير بان يطلق على من يقول بنقيض فكرتهم , أي على "الجبرية".
كان ذلك بقصد تطبيق حديث منسوب إلى النبي على أهل الاختيار , وهو الحديث القائل " القدرية مجوس هذه الأمة ".
وقد رفض المعتزلة هذه التسمية قائلين : " .. لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله " .... ( الشهرستاني : الملل والنحل.(
وهم لا يقولون بذلك.
ثم يأتي دور المعتزلة لتطوير الاتجاه العقلي وتقعيده على قواعد مستمده من لقاحات فلسفيه متنوعة المصادر , وكان يعني هذا الاتجاه المعتزلي انعطافا في الفكر العربي _ الإسلامي من جهتين :
_ جهة تتعلق بمسالة المعرفة ,
_ وجهة تتعلق بترسيخ فكرة حرية الإنسان أي مسؤوليته عن أفعاله .
من الجهة الأولى: كان المعتزلة خرقا لحصر مصدر المعرفة في واحد , هو المصدر الإلهي , إذ أضافوا العقل كمصدر أخر للمعرفة حتى في مسائل العقيدة .
من الجهة الثانية: أقاموا مفهوم العدالة الإلهية على أساس حرية الإنسان , أي على نفي الجبرية المطلقة التي تحكم كل أفعاله .
وهنا ظهرت مواقف الخصومة لهذا الاتجاه من كلتا جهتيه , واستخدم الدين كذلك وسيلة لكبح التطلعات العقلانية المعتزلية وعرقلة تطورها نحو الفكر الفلسفي المستقل عن أساسه اللاهوتي .
وقد توزعت مواقف الخصومة هذه بين تيارات ثلاث في عصر النهوض المعتزلي , هي :
_ التيار السلفي ,
_ والتيار الحنبلي ,
_ والتيار الأشعري .... ) الشهرستاني ( .
لقد تضافرت كل التيارات المحافظة على إقصاء الفكر المعتزلي نهائيا على صعيد النشاط الفكري في منتصف القرن التاسع الميلادي .
ومن أعجب ما حدث , بعد ذلك , أن غياب المعتزلة عن مسرح النشاط هذا قد اقترن بغياب المصادر الأصلية لأفكارهم غيابا كليا عن المكتبة العربية_الاسلامية , حتى لم يبقى لنا من هذه الأفكار إلا ما صاغه خصومهم صياغة مشتته مجتزأة , وحرمت الأجيال اللاحقة من قراءة الفكر المعتزلي بصورته الحقيقية الكاملة التي صاغها أهله أنفسهم في مؤلفاتهم , ولم يصل إلينا من هذه المؤلفات أخيرا سوى كتاب "الانتصار" لأبي الحسن الخياط .
وبعض المخطوطات التي عثرت عليها بعثه مصريه أوفدت إلى اليمن في سنوات قريبه سابقه , وصدرت في مصر من هذه المخطوطات بضعة أجزاء من كتاب "المغني" للقاضي عبد الجبار المعتزلي .... ( علي سامي النشار : مقالات الإسلاميين ).
ومن الواضح لنا الآن أن مواقف العداء هذه لم تكن لتبلغ هذا الحد الأقصى من تغييب تراث المعتزلة , لولا أن العداء موجه _أساسا_ لنزعة التحرر العقلي الغالبة على هذا التراث .
إن موجة العداء للفكر المعتزلي قد امتدت إلى عصور لاحقه وتشكلت بأشكال من العداء لكل فكر يعتمد النظر العقلي حتى علوم الطبيعة والفلسفة والرياضيات .
يصف المسعودي موقف المحافظين من أهل السنة , في خلافة المتوكل العباسي , حيال الفكر المعتزلي بقوله انه بالرغم من كون المتوكل " ... من اظلم الخلفاء , فقد مدحه أهل السنة واغتفروا له فعاله لرفعه المحنة (يقصد "محنة" سيطرة الفكر المعتزلي !) ورأى له كثير من المحدثين رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له " .... (المسعودي : مروج الذهب ).
ولكن المسألة تجاوزت هذا الموقف إلى مختلف أشكال الطعن بفكر المعتزلة , بل إلى تشويهه وتحريفه , كما فعل الاسفراييني مثلا , في تأويل نصوص المعتزلة بشان مفهوم العدل عندهم .
فان شروحهم لهذا المفهوم تضمنت القول بأن قدرة الإنسان مقيده لقدرة الله ( لنا عوده متأخرة لهذه النقطة ).
وجاء الاسفراييني ( وهو احد كبار المؤلفين الاشعريين ) يفسر هذا القول تفسيرا عجيبا .
قال إن كون " العباد " يخلقون أفعالهم , كما يرى المعتزلة , إنما يؤدي " إلى أن كل واحد منهم , كالبقة والبعوض والنحلة والنملة والدودة , خالق : خلق أفعاله , وليس الله خالقا لأفعالهم ولا قادر على شيء من أعمالهم , وأنه قط لا يقدر على شيء مما تفعله الحيوانات كلها , فأثبتوا ( أي المعتزلة ) خالقين لا يحصون ولا يحصرون ( .... ) أنهم مهدوا بذلك طريق القول بالتثنية " .... ( الاسفراييني , أبو المظفر طاهر بن محمد ( _ 471 ه ) : التبصير في الدين (.
إن تفسير كهذا لمفهوم المعتزلة يتجاهل أن كلمة "العباد" في نصوصهم تعني البشر وحدهم , ويتجاهل كون المعتزلة لا يمكن نسبة "التثنية" إليهم وهم الذين بلغ من تشددهم في مناهضة أهل التثنيه , فضلا عن أهل التشبيه والتجسيم .
لعل ابن خلدون وحده , رغم "حزبيته" الأشعرية , استطاع أن يدرك قيمة الظروف التاريخية التي جعلت الفكر المعتزلي يكتسب جاذبيّة استقطبت أنظار معاصريه .
فان ابن خلدون أدرك أن عصر المعتزلة كان عصر تطور العلوم , وان هذا الواقع التاريخي كان السبب في إشاعة الفلسفة واجتذاب الناس إليها , وكان الممهد للمعتزلة أن يحدثوا _ بدعتهم _ كما يعبر ابن خلدون انطلاقا من أشعريتة , مستخدمين الفلسفة في تفكيرهم حتى لم يكن من اليسير على خصومهم أن يدحضوا حججهم لكونها قائمه على قواعد فلسفيه .
غير أن ابن خلدون يرى هنا أن ذلك هو السبب في نهوض أبي الحسن الأشعري بمهمة الدفاع عن مذهب أهل السنّة "بالأدلة العقلية" , أي بسلاح المعتزلة نفسه , وان الأئمة الاشعريين بعد مؤسس مذهبهم تابعوا طريقه فادخلوا "علوم المنطق" في مباحثهم , ثم مضوا حتى ادخلوا فيها الفلسفة من غير أن تلتبس مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة في مباحثهم هذه .
ويخص ابن خلدون " كتب الغزالي والإمام بن الخطيب " بالإشارة إلى كونها النموذج والقدوة في هذا المجال , وهو ينتقد المتأخرين من المتكلمين بأنهم خلطوا بين الطريقتين : طريقة علم الكلام السني وطريقة الفلاسفة .... ( ابن خلدون : المقدمة . (
على كل حال :
نفهم من كلام ابن خلدون هنا اعترافا ضمنيا , لا يقصده , بأن للمعتزلة الفضل الأول في وضع العلاقة بين علم الكلام والفلسفة موضع الأمر الواقع التاريخي .
إن ابن خلدون يتميز بين قدماء الفكر العربي _ الإسلامي بحس "تاريخي" مرهف أضفى على تفسيره للأحداث وجها علميا ومكّنه من النفاذ إلى ما وراء الظاهرات , بصرف النظر عن وقوفه من المعتزلة موقف الخصم انطلاقا من "حزبيته" الأشعرية .
بل من الحق القول :
انه رغم موقفه "الحزبي" لم يدع هذا الموقف يحجب عنه الرؤية التي نفذت إلى سر العلاقة بين تطور العلوم وتطور النظر الفلسفي وكون هذه العلاقة هي أساس النجاح الذي ظفر به المعتزلة وكون هذا الأساس نفسه هو الذي مكّن "لعلم الكلام الأشعري" أن يصبح احد البديلين عن علم الكلام المعتزلي . أما البديل الآخر فكان "الفلسفة" ذاتها.
تحول التيار المعتزلي , بعد غياب ممثليه , وان بوسائل القهر والقسر , وان كان ذلك قطع مسيرة الفكر المعتزلي إلا انه لم يقطع مسيرة الصراع نفسه .
إلى مجريين كبيرين انقسم إليهما طرفا الصراع منذ ذلك المفترق التاريخي حتى المفترق الذي نسميه "العصور الحديثة" :
_ المجرى الأول هو (الفلسفة) , وهو الذي ندعوه بالفلسفة العربية_الاسلامية .
_ المجرى الثاني هو علم الكلام الأشعري .
قلنا إن هذا الانقسام الجديد كان تحولا نوعيا في شكل الصراع , لأنه انتقل من كونه صراعا بين اللاهوتية الصافية , واللاهوتية_العقلانية , إلى كونه أصبح صراعا بين :
_ لاهوتيه "معقلنة" في المذهب الأشعري .
_ وبين عقلانيه تنزع بقوة إلى الاستقلال عن أصولها اللاهوتية في الفلسفة العربية_الاسلامية .
كان فكر الغزالي النموذج الأعلى لأحد طرفي هذا الصراع الجديد , أي الطرف الذي كان مرغما , موضوعيا , أن" يعقلن" الفكر اللاهوتي الإسلامي .
ومنذ الغزالي أخذت تتجلى مواقف القدماء من الفكر الفلسفي الذي أصبح المظهر الأمثل لتراث الفكر العربي_الإسلامي بما اقترن به , اقتران تفاعل جدلي , من منجزات علميه في الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والجغرافية , وبما كان لهذا التفاعل الجدلي من آثار وجدت تجليات في ما نسميه) النزعات المادية).
فقد أصبح الاتجاه الغالب لتلك المواقف هو اتجاه الغزالي نفسه , وهو الذي سلط سيف الإرهاب الفكري الديني على الفلسفة والفلاسفة , وهو الذي حدد _إلى مدى بعيد_ أشكال النظر الوحيد الجانب إلى هذا التراث في مباحث المتكلمين الاشعريين المتأخرين وغيرهم وفي مؤلفات المؤرخين منهم .
وقد نستثني من هذا الحكم اثنين بين كبار مفكري الأشاعرة :
الشهرستاني مؤرخ الفلسفة الأشهر , وابن خلدون .
الأول كان نموذج المؤرخ الأمين للحقيقة التاريخية لذاتها رغم احتفاظه بمذهبتيه الأشعرية في