يقول الحاج سليمان حماد (75 عاما): كل الأمور كانت جميلة في بلدتي “سلمة” قضاء يافا قبل النكبة، عشنا حياة هانئة وهادئة وسط الطبيعة وأنا عملت مع والدي في مزرعة تضم مختلف أصناف الفاكهة والخضار، وطالما أحببت الجلوس تحت أوراق أشجار الليمون لأشم رائحتها وأشاهد منظر شروق الشمس، وأتذكر أن والدتي كانت تساعدنا خلال موسم حصاد الجوافة والبرتقال، وعمتي تتولى “بابور” طحن القمح ونتبادل مع الأقارب المنتوجات ونبيع الزائد منها في السوق أو نستبدلها للحصول على الحليب والسكر والأرز وغيرها من السلع، ونشتري قماشا تحيكه خالتي ثيابا لي ولأخوتي الأربعة مع اقتراب العيد .
يضيف حماد: بين ليلة وضحاها كل شيء أصبح قبيحاً، وتبدلت حالنا من سيئ إلى أسوأ، فجأة دخلت العصابات اليهودية البلدة وكنا نسمع أخبارا قبل أن نعيش تفاصيلها المفزعة على أرض الواقع، ومن غير مقدمات وجدنا أنفسنا أمام ما يشبه حرب الشوارع اقتلعت الأخضر واليابس، وتعهدت “الحمائل” الرئيسية في “سلمة” بتقسيم رجالها إلى مناطق للدفاع، وأنا عشت اجتماعات عائلية ومحاولات حفر الخنادق والبحث عن الأسلحة ووسائل تهريبها بين الفصائل، ولكن دبابات العدو اقتحمت المكان وكانت تحمل شعارات إنجليزية، وعانينا أياماً سوداء استمرت عدة شهور قبل ترحيلنا من وطننا .
ويسترسل: اليهود دخلوا أراضينا وعاثوا فيها فسادا، أحرقوا الأشجار وأقاموا جلسات عربدة حتى الصباح، وكانوا يطلقون النار على من يحاول صدهم، ونحن كان همنا الأساسي عدم ولوج بيوتنا لذلك تجمعت أسر العائلة في منزل عمي، وكان الشبان والرجال يتناوبون على الحراسة ليل نهار، وقد رافقت ابن عمي في إحدى المناوبات وواجهنا ثلاثة غرباء أرادوا السيطرة على محرك المياه الرئيسي وعندما حاولنا منعهم انضم إليهم ثلاثة آخرون وكسروا المحرك واعتدوا علينا بالضرب وتوعدونا شرا .
في اليوم التالي مباشرة اقتحم نفر منهم حرمة البيت، ووجهوا أسلحتهم صوب رؤوس الشباب والرجال، وأهانوا النساء من خلال طلبات دونية بينها تنظيف الأحذية، وأرهبوا الأطفال وضربوهم، وفتشوا جميع الغرف بطريقة هيستيرية حتى أنهم دمروا كل شيء صالح للاستخدام بدءاً من الكراسي وحتى الخزائن وأدوات المطبخ ولوحة لمدينة القدس ورثناها عن والدي رحمه الله، كل الأغراض تحطمت وشعرنا أننا نغتصب في مأمننا، ولم يهدأ الدخلاء حتى عثروا على ابن عمي نائما، ركلوه وألبسوه غطاءً أسود على وجهه وأخذوه عنوة وسط مقاومة محيطة لم تفلح في إنقاذه .
لم نسكت ولم تستكن بلدة “سلمة” بأكملها في مقاومتها المستوطنين، وظلت المواجهات دائرة في الميدان، مقاومون يقتلون يهودا حاولوا الاعتداء على الفتيات، ويهود يحرقون بيوتا بإطلاق المدافع ويفجرون قنابل وسط الشوارع ويفتحون رشاشاتهم على الجميع بلا استثناء، والمدرسة تحولت إلى ملجأ في شقها الأسفل ومصدر دفاع بين أروقة طابقها العلوي، واستمرت الحال كر وفر بضعة شهور حتى ألقت القوات الصهيونية نشرات تدعو فيها السكان إلى الرحيل والا فالموت حليف الرابضين في أماكنهم .
الرجال خافوا على أعراضهم وأطفالهم وشيوخهم، والشباب بلا ذخيرة بعدما نفذ كل ما لديهم، والأراضي أصبحت يابسة وجرداء، والبيوت انتهكت ودمرت وصارت باحاتها ملاذ المفسدين . . جميع مظاهر الحياة انعدمت، ولم يبق سوى الرحيل .
ويستكمل حماد ذكرياته الأليمة: غادرنا الوطن ظنا أنها رحلة مؤقتة حتى يهب العرب ونستعيد حقوقنا، وأتذكر أن بعض الأسر تركت أغراضها في المخازن معتقدة رجوعها قريبا، وقبيل انتقالنا إلى المجهول أحضروا ابن عمي بعدما عذبوه وحطموا عظامه وشوهوا جسده، وأخبرنا أنهم قتلوا ثلاثة من أقاربنا رميا بالرصاص أمامه، ولم يستطع النوم إطلاقا طوال فترة رحلة التهجير الجماعية مشياً على الأقدام، حتى مات بيننا، ودفناه، ولازمنا وجع إضافي إلى جانب تشريدنا من بلدتنا .
ويردف: رحلة اللجوء كانت الأكثر مرارة في معناها ومتاعبها . . انطلقنا في قوافل تتقاسم المؤن والزاد والمعدات وسط أشجار الزيتون، ومكثنا في مخيمات متنقلة بداية في بلدة “بيت نبالا” قبل غزوها، ثم افترشنا الأرض قرب “اللد” وكانت النساء يخبزن حسب المواد المتوفرة، وفي “بيت ريما” وضعتنا جهات دولية في مبان ضيقة وتكدسنا مثل يوم الحشر، وصرنا نقف بالدور أمام مقر توزيع الطعام والشراب . . بعدها توزعنا وفق معطيات تخفيفية بين مخيمات داخلية وخارجية، وأسرتي ذهبت إلى مجموعة أقارب شرق الأردن، وعمل والدي في إحدى شركات الألبان، وشيئا فشيئا إخوتي، ولم نعد من حينها حيث دفنت أبي وأمي وشقيقي الأكبر هنا، ولا تزال أمنيتي الوحيدة أن يدفنني أبنائي هناك .
http://www.palestine48.com/default1.asp?flag=qr&report_id=207