فلسطين -
هي بالتأكيد ليست المرأة الأولى في قطاع غزة التي احترفت مهنة صعبة، لكن أمال أبو رقيق اختارت لنفسها عملاً مجهدا حتى على الرجال، تجرأت على العمل في هذه المهنة الصعبة قابلة التنافس وسط مجتمع شرقي ذكوري، لتكون آمال بحق النجارة الوحيدة في فلسطين.
داخل ورشتها الصغيرة بوسط مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تجد آمال الوقت الكافي لتنجز مهامها، بعيداً عن أعين المتطفلين، والساخرين، وبعزيمة الطامحين لتحقيق الذات حتى من خلال عمل صعب، تجد آمال نفسها نموذجاً لطموح المرأة الفلسطينية الذي لا يحده شيء.
هناك حيث تحولت الهواية القديمة، إلى مهنة واحتراف تسعى من خلالها لتوفير مصدر رزق جديد لعائلتها التي عانت كما عانت الكثير من الأسر داخل قطاع غزة جرّاء الأزمة الاقتصادية، وأرهقتها سنوات الحصار.
تقول آمال أبو رقيق "36 عاماً" عن بداية عملها: لا يعرف الإنسان أي الطرق التي ستحقق له السعادة، فالصدفة وحدها جمعتني بهذا العمل، من خلال إعلان لمركز تمكين المرأة والمجتمع، للمشاركة بدورة لتعليم مهنة النجارة، وعلى غرابة الفكرة فقد استهوتني، وداعبت مخيلتي، وسألت نفسي هل يمكن لي أن أجتاز هذا الامتحان الصعب وأن أتقن فعلاً مهنة بقيت حتى وقت قريب جداً حكراً على الرجال؟.
وتضيف: لم آخذ بالتفكير وقتاً طويلاً، خاصة أني حرمت من دراسة التخصص الذي أطمح به، وأن النجارة هي الأقرب إلى دراسة الفنون الجميلة قسم الديكور، حيث حرمتني منها الظروف، وقرّرت فعلاً الالتحاق بالدورة كي لا أسمح للفرصة أن تضيع مرة أخرى.
ولا تنكر آمال استهجان كل من حولها لفكرة تعلمها هذه المهنة، إلا أن طموحها كان أكبر من أن توقفه نظرات المشككين، فاستمرت إلى أن تميزت على كل زميلاتها، وبعد انتهاء الدورة، قرّرت أن تخوض امتحانا أصعب، وهو العمل بمفردها، من خلال ورشة المركز التي فتحت لها أبوابها لتنجز عملها، وتحدث فارقاً واضحاً في حياة أسرتها من خلال مصدر الرزق الجديد هذا.
إذا اجتمعت الهواية والاحتراف في عمل فلا بد أن يكون متقنا، هكذا عبّرت آمال عن العمل بمهنة النجارة بالنسبة لها، وتردف قائلة: لا بد للجميع أن يعي بأن المرأة قادرة على الإبداع في كل مجال يمكن أن تخوضه، وأنها شقيقة الرجل والمنافسة يجب أن تكون بينهما على الأفضل، وليس لإقصاء أحدهما للآخر.
وحول ظروفها الاجتماعية تقول آمال: قد يكون الطلاق نهاية الأمر بالنسبة للنساء في مجتمع مغلق كقطاع غزة، إلا أنه كان بدايتي في سوق العمل نحو حياة جديدة، وبرغبة وقناعة تحقق الأمل الصغير بالعيش بكرامة وأن أعيل ابنتي الوحيدة المعاقة والتي تحتاج إلى رعاية صحية دائمة ومستمرة.
بين المسامير والمطرقة والثاقب الكهربائي، تجد آمال متعتها الحقيقية رغم الصعوبات التي تواجهها في عملها، سواء من شح المواد الأساسية من الأخشاب والغراء، وبعض الأدوات، وصعوبة تعاملها مع الآلات الكبيرة، والتي تحتاج إلى تركيز دقيق، وحتى تقبل المجتمع عملها هذا باعتباره خارجا عن العادات المتعارف عليها في القطاع.
غير أنها استطاعت مواجهة هذا كله، بصلابة، وحوّلت نظرة الاستغراب إلى أخرى تحمل الإعجاب، وغيّرت قناعات أسرتها التي تحفّظت في البداية على هذا العمل، إلا أنهم أمام إصرارها لم يجدوا بداً من القبول متابعين النتائج الطيبة التي وصلت إليها آمال من خلال عملها، بالإضافة إلى التحسن الكبير الذي طرأ على نفسيتها خاصة في فترة ما بعد الطلاق، وتفريغها لطاقتها في عمل مفيد يجلب لها دخلاً جيداً.
وسط الأصوات الصاخبة للآلات التي تتعامل معها آمال يومياً فإنها لا ترى في عملها أي تأثير سلبي عليها كامرأة، وأن العمل في مهن شاقة لا ينتقص من أنوثتها، بل أن الأنوثة تعني أن تهتم المرأة بحياتها، وأن ترعى شؤونها بنفسها بعدما تتقطع بها السبل بثقة كبيرة بنفسها، وإرادة صلبة، وقدرة على التحمل، وإن كان الهروب من مسؤوليتها يعني لها الأنوثة فإنها تستغني عن هذه الأنوثة المزيفة.
كلمات آمال كلها مليئة بالفخر بما أنجزته من لوحات خشبية متنوعة، وبراويز وبعضاً من قطع الأثاث المختلفة، مؤكدة أن الخطوة التالية لها هي تسويق هذه المنتجات، وإنها ستتبع نفس الأسلوب المثابر في حصد نتيجة جهدها.
وحول طموحها، تتمنى آمال أن تتمكن من إكمال مشوارها تجاه ابنتها التي ترى الدنيا من خلالها، كما تتمنى أن تكون بدخولها هذا المجال قد فتحت الباب أمام الكثيرات للمشاركة في أي عمل ممكن أن يحقق لها اكتفاءً ذاتياً، وألا تبقى المرأة مطالبة بالمساواة دون أن تتحمل المسؤولية الفعلية لهذه المساواة.